ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحب سعى مخلص وجاد للتعرف على العالم .
انه وسيلة استكشاف دائم للعالم إنه المبدأ وكل ما عداه بعد ذلك أثر لهذا المبدأ .
ولأنه المبدأ للوجود فهو من ثم ينتظمه بأسره في علاقة متداخلة بين العقلي والحسي .
وفي ذلك يقول الدكتور العشماوي في تقديمه الرائع المتألق لديوانه الشعري " أزمنة في زمان " وفي الحق ليس الحب إلا شوطا نبدأه بما فوق هذه الأرض من جمال , ومع ذلك فإن البصر منعقد طول الوقت بالجمال المطلق , مايزال يرتفع إليه درجة فدرجة .. فمن جمال الأجسام إلى جمال المشاعر ومن جمال المشاعر إلى جمال الأفكار , وهكذا نتدرج في الإحساس بالجمال حتى نصل إلى المعرفة المطلقة التي هي إدراك الجمال المطلق ذلك المثال الخالد الذي تمنح مشاهدته الحياة قيمتها
الحب إذن هو البداية وهو النهاية وما بينهما مفردات رمزية هي محاورات بين الذات والآخر سعيا إلى التوحد والتمازج , وتتناثر هذه المفردات الرمزية بين المرأة والطبيعة والإنسان وحركتها . والمرأة هي أعظم هذه الرموز وأكثرها تمثلا للتوحد العقلي والحسي , فهي بلا شك مركز الحياة العامة والخاصة التي يدور حولها كل شيء , ولعل هذا أن يكون السبب الحقيقي في أن الفنون تدور حول المرأة .
هذه المقدمة القصيرة أساسية للدخول إلى العالم الشعري عند أيمن صادق والذي بدأه بديوانه " سمريات " الصادر عن منتدي الشعر العربي 1996 م و " سمر .. وحلم النوارس " الصادر عن هيئة الفنون والآداب بالإسكندرية في نفس العام أيضا .
الديوانان صدرا في عام واحد , وتتوزع القصائد فيهما بين قصائد تمثل مرحلة إبداعية متقدمة وقصائد تبدو أكثر تماسكا وإستقلالا ونزوعا إلى التفرد والخصوصية , ولذلك فلا نستطيع أن نقطع بأي الديوانين هو الأسبق .
في قصائد الديوان يتقدم أيمن صادق شاعرا نذر نفسه للحب , وارتضي لنفسه أن يضنى فيه وأن يخضع له طواعية , فهذا هو أبسط حق للمعشوق وليس عليه بعد ذلك إن سقط شهيدا فسوف ينتقل إلى حالة من الديمومة , الحياة في الموت أو الموت في الحياة , أي الأبدية :
إنـــه أيـــمن صـــادق
يصطفي فاطمة والشعر
فـي كـــل صبــــــاح
يرتــدي عمـرا جديـــدا
وإذا ما عـاد في الليـــل
تراه يخــلع المــوت ....
ويهـــديـــها نشيــــــده
( أيمن صادق : سمر.. وحلم النوارس )
ومحاور الحب عند أيمن صادق محاور رومانسية تقوم فيها المرأة بدور المعادل الرمزي للحياة , وتصبح المعادلة على النحو التالي : الحب المرأة ... الطبيعة الحياة :
وحين التقينا ....
توضأ قلبي بضــوء القمــر
وصلي بصوت ذبيح الوتـر
ورتل ورد السنيـن اللواتــي
رحلن بزهر الشباب النضر
( ظلال : سمر .. وحلم النوارس )
وتمتزج مفردات المعادلة في قصيدة وجع متنقلة بين المرأة الشهوة والمرأة الحب , والمرأة الطبيعة , والمرأة الحياة , وكأنها دعاء غامض يشرب إلى نفوسنا :
دخلتِ القصيدةَ فاشتعلت بالنزيف
فهلاَّ نفختِ بروحكِ
فى لوحــة للخيـــولِ
لكى ما تعربـد فــوق الجــدارِ
وتوقظ _ فى شهوةِ الإنعتاقِ
جموحَ السيـوفِ
ورعد َ الصهيـل ِ
وتيــه الغبــــــارِ؟!
ويسترسل الشاعر في حنينه الممتزج هذا في قصيدة " أطياف من نفس الديوان , متغنيا بالحياة في تواصل مستمر ومباشر , بهذه المفردات التي تمتزج في شبه التقاء روحي يقوم علي الحب الذي يشع ويشيع دفئا نازعا إلي السلام والنقاء :
وأبحث في عيون الناس عنها
وفي الآفاق رجع من صداها
فكانت إذا تغيب الشمس تأتي
ترتل لحن شوق في خطاهـــا
وتفرد من جدائلها بســـاطــا
يثور الليل من شعــر تلاهــــا
فيشدو في حنايا الصدر طير
تلظي في ثـــوان في لقـــاهـــا
فأطرب من حديث لم تقــلــه
وسكر من كروم في شفــاهــــا
لهذا كان من الطبيعي أن يصبح الحب عند الشاعر محاورة مع الطبيعة تستهدف السمو بالموقف العقلي فوق الحب بحيث يضمه ويطويه من خلال التعبير عن أفعال عقلية , وهو ما نراه بوضوح في قصيدة مثل " هل تبيض الديوك في مدريد " من ديوانه سمريات حين يوظف مفردات تجربة الحب للتعبير عن الموقف المأساة في سقوط الدولة الإسلامية الذي هو من ناحية أخري قراءة عقلية لمأساة سقوطه وخضوعه طواعية لفعل الشقاء .
تعبت من جرحك المغروس في جوفي
تـعبت من تعب بالصبر يستـكفي
فكيف أهرب من عشقي ومن وجعي
وأنت في .. وقدامي .. ومن خلفي
وأنـت حزني الـذي للقـهـر شيـعـنـي
وأنت مقصلةَ ... لم يعصها حتفـي
وقد يصل الأمر في أحيا كثيرة إلي إستغراب الألم , بل عبادته علي نحو ما نري في قصيدته " إمرأتي , وأنثاه " من ديوان " سمريات " :
هي امرأة تسير
تبعثر خلف خطوتها المساءات
وضوءا من عبير
وتسقط من حقيبتها مواويلي
ألملمها نجيمات
نجيمات
وألهث خلف أسئلتي التي تخشي الإجابات
تمزقني احتمـــــالاتـــي
وأرجع بانهزام الحلم يجهلــني المصيــــــر
................
فأسألها
تقامـــــامرني علــــي حزنــــــي
وتنثر فوق مائدتي أكاذيبا ملونة
تلون بين مخدعها ومأساتي لتغتال إحتمالاتي
بــــلـــون ليـــــس كالألـــــوان
وتنسج من نزيفي ثوب أغنية
تكفــــن جـــذوة الحــــرمــــان
ولهذا فقد كان من الطبيعي , على الرغم من انصراف الشعر إلي الذاتية , أن تتجه الإشارات هنا كلها إلى" أنتِ " , وأن تظهر الأنا بصورة عابرة :
وتبقي الإجابة محض احتمال
وأصداء صمت
ولحنا يراوغ في الغيب عوده
وشمســا شديــدة
تدور .... تدور
حواليــك أنــت
..........
فهل سوف تأتين ذات غناء
لكي ما تضيء قناديل بيتي
فأنت الدعاء
إذا ما أطال المغني سجوده
( أصداء صمت : سمر وحلم النوارس )
والشاعر في تجربته المثالية السامية , يبحث عن الحقيقة اللاشخصية , فتصبح مفردات التجربة وقد تحررت عن سببها المادي , واستلقت بنفسها لتقتحم مجالات وآفاق بعيدة عن الحدث الظاهر , ذلك أنها أصبحت تخفي وراءها حدثا آخر مجردا ومشحونا بالتوتر بما يبعدها عن المجال البشرى الطبيعي , ويحقق للشاعر بالتالي الأمل في مثالية سامية :
أنت ِ .. أنبتِ الفجـــر فــي مقـــلـتيــا
فرأيــــت النـــدي يــقبـــــل وردي
وعشقـــت الدنــيــا لأنــــك فيـــهــــا
وعشقـــت العــذاب فيـــك وسهــدي
فلكـــم أشجـــاني بقــربـــــك همـــس
وارتجاف الحنيـــن من لــمس أيدي
واعتصاري الكروم من روض ثغر
وارتشـافي الظمــي من بخـل خـــــد
( أنت... سمر وحلم النوارس )
هكذا أصبحت سمره مرئية لقرطبة التي سقطت معها دولة عربية وحضارتها في قصيدة " هل تبيض الديوك في مدريد " ومرثية للقدس في قصيدة " تساؤل " ( سمر .. وحلم النوارس ) ومرثية لصديق عزيز " الأميرة تنتظر " – سمريات ومرثية لطفل " رامي قصيدة لم تكتمل , سمريات "
كما تصبح سمره أغنية حب للإسكندرية :
حسناء لاحت في وشاح حالمٍ
يغري محبيها بسحر الموردِِ
يا ليتني في البحر أغدو موجة
تلهو علي صدر القوام الأغيَـدِ
******
لقد تسامت الشخصية المادية في كل شيء , فأصبحت كل شيء , وهذه هي المثالية السامية التي يسعي اليها أيمن صادق والبحث عن المثالية السامية هو في واقع الأمر بحث عن الجمال , فالجمال هو الحب وكلاهما سعى نحو الكمال .
لهذا كان من الطبيعي في تجربة أيمن صادق , أن يسعي الشاعر إلى تحقيق الجمال في اللغة والكمال في الشكل , بحيث يمكننا أن نقول عن مفهوم الجمال في القصيدة الشعرية التي يقدمها أيمن صادق أنه جمال الأشكال الموزونة الكاملة .
بذل أيمن صادق كل جهده – من هذا المنطلق – لإحكام شكل البيت وحافظ على قواعد الوزن وقوانين القافية وتقسيم المقاطع وذلك لتقديم القصيدة الشعرية شكلا محكما مترابطا , وربما كان الشاعر العظيم عبد المنعم الأنصارى فضل الريادة في تأكيد هذا المفهوم , وأيمن صادق تلميذ مخلص لمدرسة الأنصاري .
فقد نجح الأنصارى في تقديم القصيدة الشعرية شكلا محكما شديد الترابط , سبحت أغانيه في داخله في عالم لا واقعي حطم الأشياء وألغاه , فقدم بهذه الرؤية الشعرية المعاصرة بكل زخمها الثقافي والحضاري وبكل رصيدها الفني داخل إطار الشكل المحكم في تجربة لا أغالي إذا قلت إنها تجربة فريدة فى شعرنا المعاصر ومع إختلاف حجم التجربة الفنية ، يسعي أيمن صادق للحاق بعبقرية الصياغة التي تبثها الأنصاري .
إن غالبية قصائد الديوانين محصورة في إطار من التأليف المحكم المدروس , شديد الحرص علي دقة الشكل والبناء , وتتبع نظاما متحركا تتغير خطوطه من الداخل , بينما تحدده طاقة شكلية ليست مجرد حلية أو تقليد وإنما وسيلة إنقاذ وترقي , فهي إلي جانب وظيفتها في تحقيق الكمال في النظام تصبح الصورة المقابلة للمضمون القلق المتوتر الذي تشحن به القصيدة .
في القصيدة هنا كما كانت عند الأنصاري , بركان متفجر بالعذاب والقلق , ومن هنا كان على الشكل أن يقوم بدور طوق النجاة , وقد رأى أيمن صادق كما رأى الأنصاري من قبل أنه لا سبيل إلى هذا إلا بإحكام الشكل المستقر الهاديء .
ولا أعتقد أننا هنا بحاجة إلى مثال للإستشهاد والتدليل , فقصائد الديوانين كلها تقريبا شواهد مؤكدة .
أنظر مثلا في قصيدة " الملاك الرجيم " من ديوانه سمر .. وحلم النوارس " القصيدة فوضى متداخلة من الحب والحزن والشعور بالوحدة والغربة والموت يبعثرها الشاعر في بني عدوانية مثيرة ,وألوان بشعة من القسوة والسقوط يقف بينها الشاعر إنساناً ممزقاً تتجاذبه هذه العذابات ...( أعري النزيف , أنين يضئ في مقلتيه , مارسيني , فضي بكارة موتي , خبئيني في الموت ... امنحيني .. صليبا أنزف غنائي عليه ... ملاكي الرجيم ) إلى آخر هذه التركيبات العدوانية شديدة القسوة . أما القصيدة , الشكل والبناء فإطار محكم مترابط في نظام دقيق :
اخدعي ليلا كنت أشــكو إليــــــه
وأعري النــزيف بيــن يــديـــــــــــه
وأغني ... فلا يخــــون غنـــائي
وأنيـــني يـــضئ فـــي مقــــلتيـــــــه
مارسيـني .. فضي بكارة موتي
خبئيني في المـوت عن نــــاظريــــه
وامنحينـي عمـرا جديداً ونـايـــاً
وصلــيــبـــــاً أنزفْ غنائي عليــــه
********
نمضي بعد ذلك في تفسير تركيبات التجربة الشعرية علي غرار من يتسلق الجبال , فلكي يتقي السقوط يستمر في اندفاعاته , أما إذا توقف مطولا فإن مصيره هو السقوط في تشبيه جان – بيار – ريشار – أستاذ الأدب المعاصر في جامعة السربون .
ونبدأ فنقرر , أن النص الشعري لا ينشأ عن الموضوعات والبواعث الفنية فحسب بل ربما كان الفضل في خلقه يرجع أساساً إلى إمكانيات الأليف والتركيب بين أنغام اللغة وأصواتها والذبذبات المترابطة المتداعية التي تنبعث من معاني الكلمات . فالكلمات تطلق طاقات وقوي لا منطقية , وهذه الطاقات والقوي هي التي توجه مسار العبارة و وتؤثر بفضل تسلسل أنغامها عند العادية تأثيرا سحريا غير عادي .
الموضوع الذي تتشكل منه التجربة الشعرية عند أيمن صادق هو العشق , والعشق ابتكار للمعاني الجديدة, هكذا تتحرك لغة الشاعر وصوره لصياغة هدف الغربة , فينشئ فيها تلامس حسي تصبح لغة القصيدة لحنا وإيقاعا أشبه بالجرعات السحرية للحب :
وعربد في نهديك ليل وغربة
كنت أرسمني طفلا يخبئ في عينيك فرحته
يــراود المــوت في النهديــن
يسكـــب مــا بيــن العينيــن
فــــلا
*******
وإستطاع أيمن صادق أن يبدع رقصات عقلية معتمداً فيها على ظلال الحروفالصوتية مستغلا الارتباطات القائمة بين الحروف والموسيقى غير النغمية في الشعر التي تعتمد علي تفاوت درجات الشدة والعمق وعلي إختلاف الحركات بين الصعود والهبوط مما وفر لكلماته ديناميات مطلقة وجعل صوره نسيجا مجردا من الخطوط والحركات الخالصة :
عرفتك ضالا .. تجوب الشوارع
عاري السنيـــن بغيـــر إهتـــــداء
يصافح حزنـك مقهــى الـمدينـــة
والعابــرون رصيـــف المســـــاء
وأنت يمارسك الشعـــر نزفـــــاً
ويلعـــق جرحــك حـــرف الهجـــاء
وتنكفئ الأمنيـــــات بقلــبـــــك
يسـتـــافـــك القهـــــر والكبـــريـــاء
تحــاول أن تستعيــد الطريـــق
يعيــــدك قهــــرك خـلــف الـــــوراء
تدوس انكفـاءك سعـيـا إليــــها
وتقــســــم بالقــهـــر والانـــكــفـــــاء
فإمــــا أكــــون
وإمـــا أكــــون
وإمـــــــا يكـــــفــن عمــري العـــفــــاء
( استهلال : سمر ... وحلم النوارس )
**********
وبعد , فهذه محاولة متواضعة للدخول إلي العالم الشعري عند أيمن صادق , حاولت خلالها الاقتراب من الرؤيا الشعرية عنده , وسعيت إلى إيجاد العلاقة الخفية بين موضوع شعره وأدوات بنائه .
أعتقد أن أيمن صادق سوف يكون علامة ملحوظة في خريطة الشعر العربي المعاصر بما لديه من حساسية شعرية , وما يتملكه من صدق فني ومشاعر متوقدة , تؤكد مقولة نوفاليس الشاعر والكاتب الألماني ( ت . 1801 ) في شذراته من أن الشعر " هو مسلك النفس الجميلة الموقعة , صوت مصاحب لذاتنا المكونة , مسيرة في بلد الجمال , أثر ناعم يشهد في كل مكان علي أصابع الإنسانية , قاعدة حرة مستقلة , علو وإرتفاع , بناء للنزعة الإنسانية , تنوير , إيقاع , فن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيمن صادق وتجربته الشعرية .............د/السعيد الورقى
المصدر : كتاب موجا يكون الشعر صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 1997 ص 56