Wednesday, January 21, 2009

منتظر الزيدي

منتظر الزيدى




أَسِنتْ جداولُنا

وحطَّ على شواطئنا العفنْ

وتوحَّلتْ هاماتُنا

حتَّى أتيتَ فتى تؤرِّقه

نيوبُ الخوفِ فى قلب الوطنْ

فالشكر لكْ

الشكر لكْ

أيقظتَ فرحتَنا التى نامتْ

على كوم المهانةِ من زمنْ

وغسلتَ نخوتَنا بزمزمِ كبريائك

بعد أدران المحنْ

وثأرتَ للحلم الشهيد برمية ٍ

نالتْ من الصلفِ الغبى ولم تهنْ

فالشكر لكْ

الشكر لكْ

كيف اشرأبَّتْ حيث نعلك أعينٌ

لمـَّا انحنى الرأسُ الخبيثُ بما نتنْ

فتململتْ نطفُ العروبةِ

بين أرحام الزمانِ ..

لكى تمزِّق عن كرامتنا الكفنْ

فبعثتَ تاريخَ الرجولةِ

من سراديب النخاسةِ ..

لم تقايض بالثمنْ

فالشكر لكْ

والمجد لكْ

يا فارساً

خان الجميــــــــعُ..

ولم تخُنْ
* * *

Monday, March 3, 2008

بل الحياة علي قارعة النشيد.. دراسة بقلم أ/ أحمد سويلم

بل الحياة علي قارعة النشيد
دراسة بقلم أ/ أحمد سويلم

هناك مراوغة مقبولة دائماً تكمن في حس الشاعر.. حيث يضمر ما بين سطوره أكثر مما يبوح به.. وقد يظن القارئ حينما يأخذه شاعر إلي عالم الموت أنه سوف يلقيه إلي الجحيم.. في حين أنه لو أمعن تذوقه قليلاً في هذا العالم لوضع يده علي أكثر من علامة يقين للحياة..

ومن ثم فمراوغة الشاعر المقبولة هي تلك التي تمتلك أن تجذب القارئ إلي عالمها –أولا- ثم تمنحه بعد ذلك كل ما يود أن يعيشه ويتذوقه..
وأزعم أن الشاعر الذي يبوح منذ البداية أو يشي بكل ما يكنه داخله.. يهلهل قصيدته.. ويدفع القارئ إلي الانتهاء منها كأنه يقرأ تفسيراً أو تحليلاً لخبر سبق أن لخصه عنوانه.
ومن ثم فإن ابداع قصيدة جيدة ليس كأي لون من ألوان الكتابة يتطلب توقداً داخلياً.. وقدراً من المران والخبرة الشعورية وبعضاً من الغموض الموحي الساحر الذي يقوم علي الرمز وليس علي التعتيم والانغلاق.. وكثيراً من المقومات الأخري المدهشة والمتناقضة والمتألقة بما يجعل القارئ مشدوداً من أطرافه لتذوق العمل الشعري واستعادة قراءته لاكتشاف ما خفي بين حناياه..
وبين أيدينا الآن شاعر شاب راوغنا في عنوان الديوان حيث واجهنا به يقول (الموت علي قارعة النشيد).
وهو عنوان يثير التساؤل والدهشة والاستفزاز والاكتشاف جميعاً..

فأما التساؤل.. فلأن النشيد هو رمز للحياة والأمل والإشراق النفسي.. حتي لو كان حزيناً.. فهو تفريج وتطهير عن أدران النفس وعن كآبتها وأوجاعها..
فكيف يكون الموت علي قارعة الحياة البهيجة.. لابد أن يكون في الأمر سرٌ دفين..
وأما الدهشة فتأتي من هذا التناقض الظاهري بين الموت – الغيب- وقارعة النشيد- أي طرقات الحياة المشرقة..

وأظن أن هذه المراوغة والمفارقة بين الغائب والحاضر.. وبين المجهول والمعلوم هي التي أحدثت هذه الدهشة!
وأما الاستفزاز فلأن الشاعر يدفعنا دفعاً إلي الدخول في عالمه.. ويحرضنا لاكتشافه لعلنا نقع علي جوهر ما يود أن يبوح به..

وأما الاكتشاف فهي تلك المرحلة التي تلي دخول عالم الشاعر.. حيث نرتاد مجاهيله ونكتشف السر وراء مراوغته إلي حد بعيد..

ولهذا آثرت أن أطلق هذه الدراسة
(الحياة علي قارعة النشيد)

لعلني أفلح أنا الآخر وأنا أكتب النثر.. أن أمسك بتلابيب القارئ حتي يقرأني!!

ولنا الآن أن ندخل عالم الشاعر ونحن مسلحون بكل هذه المقومات والمحاذير..
فإذا أضفنا أن الشاعر له ديوانين قبل ذلك.. زاد ذلك من اطمئناننا ونحن نقتحم عالمه..

فقد أصدر من قبل ديوانين يمثلان خطوتين متتابعتين..

تكمل الخطوة الأخيرة ما قدمته الأولي.. بحيث يستطيع القارئ لهما أن يقف علي تجربة أيمن صادق بعناصرها البكر متأججة متوجسة شابة نضرة متأرجحة.. شأن أية تجربة ابداعية تشق طريقها في ساحة الشعر..
إن أيمن صادق –رغماً عنه- ينتمي إلي جيل له تجربته المعاندة وأنا أكن لهذا الجيل تقديراً خاصاً وهو يتمرد بفن جيد علي عطاء الأجيال السابقة عليه..
لقد أصدر الشاعر في عام 1996 ديوان سمريات.. وديوان سمر وحلم النوارس ليمثلا دفقة شعورية صادقة تجمع الحزن والفرح.. والحلم والواقع.. واليأس والأمل.. لكنها تجربة شديدة الصدق غنية العطاء.. وبالرغم من تلك البداية التي كان يشوبها ما يشوب بدايات كل الشعراء من العجلة والاقتحام.. فإن تجربة أيمن صادق الماضية كانت تبشر بمذاق خاص لشاعر حرص علي التجديد والتحديث من خلال مقومات الفن الشعري.
والديوان الذي بين أيدينا هو حصاد أكثر من سنتين من الابداع والانتقاء للقصائد.. والتردد والصبر..
يستهل الشاعر ديوانه بتعريف كنت أتمني ألا يذكره بل نستشفه نحن من قصائده.. فهو:

يمتطي صهوة أوجاع القصيده.
وعلي خاصرة الحرف يشد الحزن.
والعمر الذي خان قيوده.

ليس شاعرنا في حاجة إلي تأكيد حبه للشعر وإخلاصه له .. وذوبانه فيه..
ويبدو أن الشعراء دائما يعيشون في حالة توجس بين ألا يستجيب لهم أحد.. لكني أطمئن أيمن علي تجربته وأحثه علي اقتحام الموقف بلا خشية أو تنردد..
ومع ذلك فقد كان استهلالاً صغيراً.. ألصقنا بصدق بعالمه الخاص..

لم يعد يصلح قلبي
لسوي الموت الجميل

مراوغة فاقعة اللون.. كأن هناك وتاً جميلاً وآخر قبيحاً.. والدلالة علي هذه المراوغة تكمن في بقية المعني:

فاغنمي ما قد تبقي من أغانٍ
واغنمي ما قد تبقي من صهيل.

ويبدو أنه يقصد هنا ما ينتج عن الموت لحبيبته .. سيترك ميراثاً (جميلاً) بعد الموت..

لكننا أمام رؤية محيرة حقاً.. لكنها حيرة طازجة مثمرة إلي حد بعيد.. تؤكد أن الموت هنا هو الحياة نفسها بعمقها .. تلك الحياة التي تكمن في الأغاني والصهيل والغشراق حتي لو (يركل عمراً مستباحاً) علي حد قوله.. إن التجربة هنا مزيج من العمق النفسي إلي درجة الموت..
وجوهر الحياة الذي هو البعث نفسه.. ولهذا نراه يدعو حبيبته الي أن تكون مثله:

(فانغرسي يا وردة الجرح النبيل).

أو يقول:

فاحتويه إذا أتي الدنيا سفاحاً
إنه قلب لقيط.
يرتدي عري المسافات...

شيعيه بالغناء لا العويل
.

إن نغمة الأمل لديه قادمة من قلب اليأس.. ونغمة الإشراق والحياة قادمة من قلب الموت.. ونغمة الاقتحام قادمة من قلب الانكسار.. هو وإن انغرست أقدامه في الطين والجمر.. لا يشكو ولا يفقد النشيد..

ويبدو أن خلاصه الوحيد قد جمعه في (الحب) وما عداه هوامش لفكرة الخلاص..

حتي الموت ما هو إلا هامش.. لكنه ليس هامشاً هزيلا لأنه يحتوي الحزن والحل المستحيل واليأس.. والانكسار.
أما الحب بكل ما تضمه دائرته من مضمون يضيق ويتسع فهو ملاذه الوحيد وإن طاردته الوحوش والمسافات والغربة والشوق..

أجئ إليك.
يطارد قلبي انصهار المسافة

-أجئ إليك.
أهند شوقاً
يعابث بالشوق مفتاح بابي
فتسقط عني عباءة حزني!!

-أجئ إليك.
تهلين فرحاً..
فيخضر قلب.. ويخضر حب!!

وفي نهاية القصيدة:
لكي أحتويك
وكي تحتويني
كتسبيحة في ابتهال الرجاء
فعشقي صلاة ..
وعشتك أنت بكل يقيني

ذلك هو صدق الخلاص أو الخلاص الصادق.. باح فيه بكل (الحياة) بديلاً من الموت والحزن والكآبة..
إن الشاعر هنا وهو يؤكد خلاصه بالحب.. يعي تماماً انه الشاطئ الوحيد الذي يلوذ به من أمواج الحياة القاتلة..

حيث يخضر القلب من الجدب.. وحيث يمتزج ويذوب في أفق يجمع بين الحلم والواقع.. بين العشق –الصلاة- وبين العشق- اليقين!!
وها هو بعد أن بلغ شاطئ الأمان والنور.. يعترف بما جناه من هذا القبول الذي تمثل في عيون حبيبته ويندهش كذلك كأنه في عالم يراه لأول مرة:

فكيف استعادت عيونك رغم غبار السنين
براءة طفلي المشاكس
فاختار من الف حضن سماءك
كي ما يمارس فيها الغرق


يتحول البحر المتلاطم فوق الأرض إلي بحر آخر في السماء لكن الاختلاف بينهما شديد.. فهو في بحر السماء مسافر فوق جناح الحب يرسم في الافق اسم حبيبته:

سيناً .. وميماً .. وراءً!!
فيخضر اسمك فوق الورق
لأول مرة
أحب!!

وما الورق هنا سوي الأفق الرحب الذي يجري فيه بحر الحب
أما قصيدته الجميلة (مزامير)
فهي نشيد الانشاد في هذا الديوان.. وهي عروس قصائده هنا..
وهي تدور حول نتائج هذا الحب.. وحصاد هذه التجربة التي يعيشها بصدق..
إنه يعيش الواقع وكأنه يحلم..
لهذا يخشي ألا يكون الواقع واقعاً.. ويود لو يصدق:

-بأن الصباح صباح..
تبسم حين ابتسمت..

-بأنك لست خيالاً جميلاً
يرتب فوضاي في كل ركن.

-وتأتين حين اراود شعري
بفنجان شاي وغمزة عين..

-بأنا التحفنا بدفئ التوحد بعد الشتات
وأنا نجوب الشوارع
دون التوجس والالتفات

-بأن ارتعاشة كفي علي وجنتيك حقيقة
دعيني أصدق أنك أنتِ
وأني حبيبك في كل وقت!

وربما لاحظنا أن الشاعر يلجأ إلي الخطاب الشعري البسيط القريب أحياناً إلي التقريرية.. لكنه –مع هذا- مغلف بالحس.. والصدق العميق.. واختيار المفردات المشحونة بالمعني رغم سهولتها وبساطتها ومباشرتها أحياناً..
لكن عذر الشاعر في ذلك أن وجدانه متوقد بالحب.. مشحون بالعاطفة.. مزدحم بالشوق الجارف.. والصدق المتجدد.. لهذا فإن الخطاب الشعري هنا وجداني بكل ما يحمل هذا المعني من أبعاد وأعماق.. والوجدان لدي الشاعر رومانسي ممزوج بواقعية من نوع خاص يقبض عليها الشاعر كأنه يحكي أحداثاً حدثت.. لكنه يحسد فيها حسه ووجدانه .. بصدق وعفوية..
وقد يعترض البعض علي هذا الخطاب الشعري.. لكننا نؤكد أنه بقليل من الانحياز غلي تجربة الشاعر.. نستطيع أن نكتشف أغواراً في هذه التجربة.. تبعدنا نوعاً ما عن التقريرية والمباشرة وأسلوب السدر أوالحكي..
ولا ينسي الشاعر الذي تسلح بالحب أن العالم من حوله متسع لتجارب إنسانية مختلفة.. وأعتقد أن الشاعر حينما قرر أن يلتفت إلي تجارب غير ذاتية.. اسقط عليها أيضاً ذاته.. فذابت في ذوات الآخرين.. وأصبح الفرد هو المجموع.. والخطوة الضيقة ساحة من العطاء..
إن قصيدته (موتوا) وثيقة مهمة لانكسار الحلم العربي الكبير..

لقد بدأ بنفسه..

الحق أقول لكم
ما عادت تجدي أدعيتي

ثم ما يلبث أن يوسع دائرة الرؤية لتشمل هؤلاء الذين انهزموا بأيديهم.. وكسروا الأحلام الكبري..

الحق أقول لكم..
لستم عشاقاً محترمين..
من يشهر صمت هزيمته
في وجه الغاصب.. قواد..
من يحن الرأس إذا ما هبت عاصفةٌ
سيموت علي ظهر أحدب..
الحق أقول لكم..
إن لم يجنح للسلم عدوك.. لا تجنح

ثم يقول في آخر القصيدة غاضباً ثائراً

الحق الحق أقول لكم
إذ يقرض خوف نخوتكم
موتوا..
فالموت هو الحل الأنسب!!

كان غضب الشاعر غضباً مبرراً منطقياً.. أمام تلك الهزائم التي ارتضاها العرب أمام عدو مخادع مراوغ.. ون ثم استطاع الشاعر بصدقه أن يعبر ليس فقط عن رؤيته الخاصة، وإنما عن رؤية الملايين الذين يعانون مثله.. وعلي النحو نفسه.. ولتكن برؤية أكثر عمقاً نقرأ قصيدته (صدي) وكأنها صدي للقصيدة السابقة أو لنقل هي محاولة للخلاص..

في يدي الف فسيلة
وبلاد ارهقت سعيي إليها
كلما راودتها عن خصبها
لم تتهيأ لي..
وخانت ظمأ الغرس..
ولم تشف غليله

ويحاول الشاعر أن يغرس الفسيلة لعلها تكون نخلة كبيرة في صحراء الياس والهزيمة والحلم المنكسر.. لكنه يواجه بأن كل شئ حوله لا يمكنه من ذلك..

إنه الموت
وفي كفي بقايا الطين
هل يمهلني حتي أزيله

والشاعر هنا لم ينفصل عن المجتمع أو المجموع.. إنه يعبر عن نفسه تعبيره عن الآخرين.. وكفه هي مجموع أكف الآخرين والمعاناة واحدة لديه ولدي الآخرين.

ألا نلاحظ هنا أيضاً أنه يشي بما يدلنا علي الخلاص وهو الحب.. حب وطنه وحب النصر.. ورفض الهزيمة والانكسار.. (يفعل ذلك أيضاً في قصيدته عن بغداد) إن خلاص الحب يتجلي في كل سطر من أسطر هذا الديوان: ويسري في كل شرايين الأحرف.. والشاعر يعترف انه واحد من ملايين البشر الذين يعانون الكراهية والبغض والحقد والهزيمة المستساغة.. ومن ثم لابد أن يواجه ويقتحم وهذا عمل الشاعر الذي يصدق مع نفسه وتجربته..
وديوان أيمن صادق فيه نوعان من القصائد: قصائد تقليدية لكنها في معظمها تتخذ بحوراً وقوافي منتقاة بحرص وحس عصري إلي حد كبير..
وقصائد حديثة تعتمد علي التفعيلة وأحياناً تكرار قافية حديثة أيضاً..

والديوان تسوده نغمة حزن شفاف.. ليس فيه القتامة والياس.. وإنما فيه المواجهة مع النفس ومع المجتمع كذلك.
لكن هذه النغمة تنمو في وجدانه لتتحول الي سلاح من العمل والعطاء والحب والسعي الحثيث.. بحيث يتحول المعني في النهاية غلي عكسه.. الحزن إلي الفرح.. الموت إلي الحياة والبعث.. الانكسار إلي التجلي والحلم بالغد.. البغض أو التوجس إلي الحب الصادق.. وهكذا.. بقي أن تقول إن هذا الديوان يتجاوز بكثير تجربة الشاعر السابقة خلال ديوانيه السابقين بكثير من الصدق والفنية والمضمون العميق..
والتجديد في اللغة ومشتقاتها وتخريجاتها مثل (تسلحف) (غسقوا) (تثعبن) وغيرها مما يؤكد جرأته المحسوبة علي اللغة..
وأخيراً.. لقد استمتعت بعطاء وتجربة أيمن صادق في هذا الديوان المشحون بالحلمن والحب والحياة.. والذي ينأي كثيراً عن الموت والحزن والقتامة –ويعلي من شأن التأمل والتجرد والعشق والوجد.. في صدق وتلقائية تؤكد أنه استطاع أن يثبت خطاه ويحفر لنفسه مساراً مختلفاً عن كثير من رفاق جيله..

أحمد سويلم
القاهرة
24/9/1998

Sunday, March 2, 2008

قبلة

قُبلة
وتبقين أنتِ..
قلادة عُمرٍ..
وقِبلة روح..

شيعيه بالغناء

شيعيه بالغناء

لم يعد يصلح قلبي
. .
لسوى الموت الجميلْ

فاغنمي
..
ما قد تبقَّى من أغانٍ

واغنمي
..
ما قد تبقَّى من صهيلْ

ربَّما .. يركل عمرا مستباحا

أرهقتْـه السحْبُ بالغيم البخيلْ

فاغنمي
..
ما قد تبقَّى من أغانٍ
..
أو صهيلْ

إنها فرصتك الآن
..
لتغتالي الجراحا

ولكي تنغرسي في حزنه

فانغرسي
..
يــا وردة الجـــــرح النبيــلْ

فأنــا
..
هيَّأتُه للموت من أَلْفِ نزيفٍ

وتهيَّأتُ لأن يلفظني نعشى

على قارعة الحلم جناحـــا

أو شراعا .. لا يميــلْ

فاحتويه
..
إذ أتى الدنيـا سفاحـــا

حينما كانت جراحاتي بغياً

إنتشى من حضنها القهـــرُ
..
ولم يسقط عليهـــا رُطَــبٌ
..
لمَّـا استجارتْ بالنخيــــــل

إنَّه قلبٌ لقيطٌ

يرتدى عُرْىَ المسافــــاتِ
..
وعمراً لم تلقمْه الغربةُ إلاَّ ثديها الضامر
..
والضرع الهزيلْ

فاحتويه
..
واغمسي في يُتْمه يُتْمَكِ حتَّى تَرِثى كبوتَه

أو تَرِثى
..
صهوتَه للمستحيلْ

فإذا جاء الرحيـــلْ

ورأيتِ الشمسَ قد رتَّقها غيمٌ كئيب

شيّعيـــه بالأغاني .. لا العويــلْ

شيّعيه
..
بالأغاني
..
لا العويلْ
* * *

علي قارعة النشيد...بقلم د/ فوزي خضر






الشاعر أيمن صادق صوت شعري غرد في سماء الإسكندرية بقصائد الحب الرقيقة في ديوانه الأول ( سمريات ) وديوانه الثاني ( سمر وحلم النوارس ) الذي يتمسك منه بقصيدة يؤكد عليها هي ( سمر وحلم النوارس ) الذي يتمسك منه بقصيدة يؤكد عليها هي قصيدة يحمل عنوانها إسم الشاعر نفسه ( أيمن صادق ) وفيها يقول :

إنــه أيـمــن صــــادق
يمتطي صهوة أوجاع القصيدة
وعلي خاصرة الحرف يشد الحزن
والعمر الذي خان قيوده
إنــه أيـمــن صـــادق
يصطفي فاطمة والشعر
فـي كـــل صبــــاح
يرتــدي عمـرا جديــدا
وإذا ما عـاد في الليـــل
تراه يخــلع المــوت ....
ويهـــديـــها نشيــــده

وتبدي اعتزازه بهذه القصيدة حين استهل بها ديوانه الثالث الموت علي قارعة النشيد وقد جاء هذا الديوان مختلفا عن ديوانيه السابقين حيث اهتم فيه أكثر بالقضايا القومية والوطنية , وتطورت أدواته فابتعد كثيرا عن التأثر بأستاذه الشاعر الكبير المرحوم محمد عبد المنعم الأنصاري الذي أثر في معظم الشعراء الذين أنجبتهم الإسكندرية وأدركوا تألقه الشعري .
وتطورت حتى قصائد الحب في هذا الديوان حين تطورت رؤية أيمن صادق للواقع وقضايا الحياة , وها هو ذا يعبر عن شوقه بالعودة إلى بيته حيث تنتظره حبيبته لتمسح عن جبينه العناء فيقول :

هناك حبيبتي
ترنو من الشباك في شغف
فيزهر بين عينيها الدعاء
هناك حبيبتي – يا ساعتي الكسلي –
تراوغ ساعة كسلى
وتلعن خطوها السكير
فوق تسكع الوقت
وتغويه لكي ما يمتطي أرقاً
يحمحم بالنداء .

هاهي ذي حبيبته تراوغ الساعة التي اتصفت بالكسل , ويصور خطوات الساعة ببطء والتردد وكأن عقربها صار معتادا علي أن يظل في حالة سكر دائمة , ويسير بها فوق وقت يتسكع هو الآخر , فكل شئ بطئ وحبيبته تحاول أن تغوي الوقت كي يمتطي جواد الأرق الذي يحمحم بنداء التلاقي . وتلح حالة الحب علي الشاعر فنجده يغرق , ولكنه لا يغرق في بحار حبيبته , بما تخفي البحار من أسرار غامضة وما يتردد فيها من أمواج صاخبة , وما يعصف فيها من رياح , إنما يغرق في سماء حبيبته ... تلك السماء الواضحة الصافية , يقول أيمن صادق في قصيدة بعنوان ( حب ) :

لأول مرة
تحط نوارس عمري
علي شرفة من أرق .
لأول مرة
تباغت أحزانها
وتفلت من ألف حزن .. وحزن
ولا تحترق
فكيف استعادت عيونك – رغم غبار السنين
براءة طفلي المشاكس
فاختار من ألف حضن سماءك
كي ما يمارس فيها الغرق ؟

وتتجلي روعة الحب في قصيدة ( مزامير ) ملتقطاً جزيئات من الحياة تتمثل في المنبه الذي يوقظه , والمخدة التي كان يحتضنها أثناء نومه متوهماً أنها حبيبته فيقول :

دعيني أصدق
بأن الصباح .. صباح
تبسم حين ابتسمت
وأن رنين المنبه ليس نذيراً
لكي تستفيق الجراح
وتعلن موتي
ولست أقوم علي صوت أم
تشد المخدة من بين حضني
وتضحك .. تضحك ..
حين أتمتم باسمك أنت
.

ثم يصور الشاعر تكرار قبلاته لحبيبته بصياغة شعرية فيها كثير من جماليات الشعر في الموسيقى التي تعتمد علي القوافي والتكرار , فيقول في القصيدة نفسها :

دعيني أصدق
بأنك غضبى
لأني تركتك طول النهار
وأنك تصطنعين خصاماً
يذوب علي قبلة الاعتذار
وأني أظل أسائل ثغرك :
هلا غفرت ...
وهلا غفرت ..؟

ويرسم صورة بديعة لحبيبته وهي تمشط شعرها فيقول :
بأن المرايا
تنفس فيها الغرور
بمشطك يخطر فوق الحرير


ويمضي أيمن صادق في ديوانه ( الموت علي قارعة النشيد )
فينفث غضبته الأبية شعراً لما يراه على الساحة العربية فيقول :
إنها بغداد سيدتي
واقفة في أول الصف
تري ...
من بعد بغداد
سنلقيه إلى الغول اللعين ؟

وتزيد المرارة في حلق الشاعر فيستهجن وضع العرب موجها قصيدته ( تخيلتكم مثلنا ) إلى ثوار فلسطين ويهديها إلى من فجر الحلم في القدس الغربية يوم 30 / 7 / 1997 فيقول :

تخيَّلتُكم مثلناتمتطون خيولَ الكلاموتمتشقون سيوفَ التسكِّع.. والإختيالاوتقترفون التمنىِّوتقترفون الحياة نساءً.. وما لاتخيَّلتُكم مثلناتحشرون بجوف الحماموجيعةَ عمرٍ تبرَّأ منَّاولا تدركون بأنَّ الحمامتقَّيأ خيبتَكم فى العراءِ.. وشدّ الرحالاوصار غريباً ..يسائل عمَّن يعيد الجناحَ ومن يسترد الفضاءَ..ومن لا يردّ السؤالَ..سؤالاتخيَّلتُكم مثلناتشحذون النصالالكى ما تشقّوا رغيفَ الهزيمة..فوق موائد حُلمٍ عقيموتقترحون..وتستنكرون..وتستمرئون التشكّيقتالاتخيَّلتُكم مثلناتصهلون بوجه أخيكموتثغون تحت سياط اللئيميهش عليكم بكذب الوعودوترعون من لؤمه الاحتيالاتخيَّلتُكم مثلنا.. "طيبين"ولكنَّكم قد خذلتم ظنوني..
وكنتم رجالا

هذا هو أيمن صادق , شاعر قوي مفعم بالشعر , يعيشه ويتنفسه , ويحيا الحياة بالحب الذي يملأ أيامه بالبهجة والأمل والإصرار ، نشأ في مدرسة الأنصاري الشعرية فخرج منها بصوته الخاص واكتسب منها التمكن من أدواته في اللغة والعروض , وقد لفت إنتباهي أنه رغم معرفته مواقع الهمزات إلا أنه يكثر من تحويل همزات الوصل إلى همزات قطع , ولا بد أن لهذا الأمر سبباً نفسياً لمواقف لا نعرفها في سيرة حياة الشاعر .

لقد قدم أيمن صادق تجربة فنية أضافت إلى شعر الإسكندرية مساحات من الإبداع تنطلق من حالة حب مستمرة كالنهر الجاري ، تمد حقوله بما تحتاج إليه من عذوبة وري , ليجني من تلك الحقول ثمار الشعر الناضجة التي جعلته واحدا من المشار إليهم في ساحة الشعر بالإسكندرية .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على قارعة النشيد.............د/ فوزي خضر
المصدر : كتاب قراءات في دواوين من شعر الإسكندرية صادر عن هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالإسكندرية 2006 ص137


أيمن صادق وتجربته الشعرية..دراسة بقلم د/ سعيد الورقي




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحب سعى مخلص وجاد للتعرف على العالم .

انه وسيلة استكشاف دائم للعالم إنه المبدأ وكل ما عداه بعد ذلك أثر لهذا المبدأ .

ولأنه المبدأ للوجود فهو من ثم ينتظمه بأسره في علاقة متداخلة بين العقلي والحسي .

وفي ذلك يقول الدكتور العشماوي في تقديمه الرائع المتألق لديوانه الشعري " أزمنة في زمان " وفي الحق ليس الحب إلا شوطا نبدأه بما فوق هذه الأرض من جمال , ومع ذلك فإن البصر منعقد طول الوقت بالجمال المطلق , مايزال يرتفع إليه درجة فدرجة .. فمن جمال الأجسام إلى جمال المشاعر ومن جمال المشاعر إلى جمال الأفكار , وهكذا نتدرج في الإحساس بالجمال حتى نصل إلى المعرفة المطلقة التي هي إدراك الجمال المطلق ذلك المثال الخالد الذي تمنح مشاهدته الحياة قيمتها
الحب إذن هو البداية وهو النهاية وما بينهما مفردات رمزية هي محاورات بين الذات والآخر سعيا إلى التوحد والتمازج , وتتناثر هذه المفردات الرمزية بين المرأة والطبيعة والإنسان وحركتها . والمرأة هي أعظم هذه الرموز وأكثرها تمثلا للتوحد العقلي والحسي , فهي بلا شك مركز الحياة العامة والخاصة التي يدور حولها كل شيء , ولعل هذا أن يكون السبب الحقيقي في أن الفنون تدور حول المرأة .
هذه المقدمة القصيرة أساسية للدخول إلى العالم الشعري عند أيمن صادق والذي بدأه بديوانه " سمريات " الصادر عن منتدي الشعر العربي 1996 م و " سمر .. وحلم النوارس " الصادر عن هيئة الفنون والآداب بالإسكندرية في نفس العام أيضا .
الديوانان صدرا في عام واحد , وتتوزع القصائد فيهما بين قصائد تمثل مرحلة إبداعية متقدمة وقصائد تبدو أكثر تماسكا وإستقلالا ونزوعا إلى التفرد والخصوصية , ولذلك فلا نستطيع أن نقطع بأي الديوانين هو الأسبق .
في قصائد الديوان يتقدم أيمن صادق شاعرا نذر نفسه للحب , وارتضي لنفسه أن يضنى فيه وأن يخضع له طواعية , فهذا هو أبسط حق للمعشوق وليس عليه بعد ذلك إن سقط شهيدا فسوف ينتقل إلى حالة من الديمومة , الحياة في الموت أو الموت في الحياة , أي الأبدية :

إنـــه أيـــمن صـــادق
يصطفي فاطمة والشعر
فـي كـــل صبــــــاح
يرتــدي عمـرا جديـــدا
وإذا ما عـاد في الليـــل
تراه يخــلع المــوت ....
ويهـــديـــها نشيــــــده
( أيمن صادق : سمر.. وحلم النوارس
)
ومحاور الحب عند أيمن صادق محاور رومانسية تقوم فيها المرأة بدور المعادل الرمزي للحياة , وتصبح المعادلة على النحو التالي : الحب المرأة ... الطبيعة الحياة :

وحين التقينا ....
توضأ قلبي بضــوء القمــر
وصلي بصوت ذبيح الوتـر
ورتل ورد السنيـن اللواتــي
رحلن بزهر الشباب النضر
( ظلال : سمر .. وحلم النوارس )


وتمتزج مفردات المعادلة في قصيدة وجع متنقلة بين المرأة الشهوة والمرأة الحب , والمرأة الطبيعة , والمرأة الحياة , وكأنها دعاء غامض يشرب إلى نفوسنا :


دخلتِ القصيدةَ فاشتعلت بالنزيف

فهلاَّ نفختِ بروحكِ
فى لوحــة للخيـــولِ
لكى ما تعربـد فــوق الجــدارِ
وتوقظ _ فى شهوةِ الإنعتاقِ

جموحَ السيـوفِ
ورعد َ الصهيـل ِ
وتيــه الغبــــــارِ؟
!
ويسترسل الشاعر في حنينه الممتزج هذا في قصيدة " أطياف من نفس الديوان , متغنيا بالحياة في تواصل مستمر ومباشر , بهذه المفردات التي تمتزج في شبه التقاء روحي يقوم علي الحب الذي يشع ويشيع دفئا نازعا إلي السلام والنقاء :

وأبحث في عيون الناس عنها
وفي الآفاق رجع من صداها
فكانت إذا تغيب الشمس تأتي
ترتل لحن شوق في خطاهـــا
وتفرد من جدائلها بســـاطــا
يثور الليل من شعــر تلاهــــا
فيشدو في حنايا الصدر طير
تلظي في ثـــوان في لقـــاهـــا
فأطرب من حديث لم تقــلــه
وسكر من كروم في شفــاهــــا


لهذا كان من الطبيعي أن يصبح الحب عند الشاعر محاورة مع الطبيعة تستهدف السمو بالموقف العقلي فوق الحب بحيث يضمه ويطويه من خلال التعبير عن أفعال عقلية , وهو ما نراه بوضوح في قصيدة مثل " هل تبيض الديوك في مدريد " من ديوانه سمريات حين يوظف مفردات تجربة الحب للتعبير عن الموقف المأساة في سقوط الدولة الإسلامية الذي هو من ناحية أخري قراءة عقلية لمأساة سقوطه وخضوعه طواعية لفعل الشقاء .

تعبت من جرحك المغروس في جوفي
تـعبت من تعب بالصبر يستـكفي
فكيف أهرب من عشقي ومن وجعي
وأنت في .. وقدامي .. ومن خلفي
وأنـت حزني الـذي للقـهـر شيـعـنـي
وأنت مقصلةَ ... لم يعصها حتفـي


وقد يصل الأمر في أحيا كثيرة إلي إستغراب الألم , بل عبادته علي نحو ما نري في قصيدته " إمرأتي , وأنثاه " من ديوان " سمريات " :

هي امرأة تسير
تبعثر خلف خطوتها المساءات
وضوءا من عبير
وتسقط من حقيبتها مواويلي
ألملمها نجيمات
نجيمات
وألهث خلف أسئلتي التي تخشي الإجابات
تمزقني احتمـــــالاتـــي
وأرجع بانهزام الحلم يجهلــني المصيــــــر
................
فأسألها
تقامـــــامرني علــــي حزنــــــي
وتنثر فوق مائدتي أكاذيبا ملونة
تلون بين مخدعها ومأساتي لتغتال إحتمالاتي
بــــلـــون ليـــــس كالألـــــوان
وتنسج من نزيفي ثوب أغنية
تكفــــن جـــذوة الحــــرمــــان

ولهذا فقد كان من الطبيعي , على الرغم من انصراف الشعر إلي الذاتية , أن تتجه الإشارات هنا كلها إلى" أنتِ " , وأن تظهر الأنا بصورة عابرة :

وتبقي الإجابة محض احتمال
وأصداء صمت
ولحنا يراوغ في الغيب عوده
وشمســا شديــدة
تدور .... تدور
حواليــك أنــت
..........
فهل سوف تأتين ذات غناء
لكي ما تضيء قناديل بيتي
فأنت الدعاء
إذا ما أطال المغني سجوده
( أصداء صمت : سمر وحلم النوارس )
والشاعر في تجربته المثالية السامية , يبحث عن الحقيقة اللاشخصية , فتصبح مفردات التجربة وقد تحررت عن سببها المادي , واستلقت بنفسها لتقتحم مجالات وآفاق بعيدة عن الحدث الظاهر , ذلك أنها أصبحت تخفي وراءها حدثا آخر مجردا ومشحونا بالتوتر بما يبعدها عن المجال البشرى الطبيعي , ويحقق للشاعر بالتالي الأمل في مثالية سامية :

أنت ِ .. أنبتِ الفجـــر فــي مقـــلـتيــا
فرأيــــت النـــدي يــقبـــــل وردي
وعشقـــت الدنــيــا لأنــــك فيـــهــــا
وعشقـــت العــذاب فيـــك وسهــدي
فلكـــم أشجـــاني بقــربـــــك همـــس
وارتجاف الحنيـــن من لــمس أيدي
واعتصاري الكروم من روض ثغر
وارتشـافي الظمــي من بخـل خـــــد

( أنت... سمر وحلم النوارس )

هكذا أصبحت سمره مرئية لقرطبة التي سقطت معها دولة عربية وحضارتها في قصيدة " هل تبيض الديوك في مدريد " ومرثية للقدس في قصيدة " تساؤل " ( سمر .. وحلم النوارس ) ومرثية لصديق عزيز " الأميرة تنتظر " – سمريات ومرثية لطفل " رامي قصيدة لم تكتمل , سمريات "
كما تصبح سمره أغنية حب للإسكندرية :

حسناء لاحت في وشاح حالمٍ
يغري محبيها بسحر الموردِِ
يا ليتني في البحر أغدو موجة
تلهو علي صدر القوام الأغيَـدِ

******

لقد تسامت الشخصية المادية في كل شيء , فأصبحت كل شيء , وهذه هي المثالية السامية التي يسعي اليها أيمن صادق والبحث عن المثالية السامية هو في واقع الأمر بحث عن الجمال , فالجمال هو الحب وكلاهما سعى نحو الكمال .
لهذا كان من الطبيعي في تجربة أيمن صادق , أن يسعي الشاعر إلى تحقيق الجمال في اللغة والكمال في الشكل , بحيث يمكننا أن نقول عن مفهوم الجمال في القصيدة الشعرية التي يقدمها أيمن صادق أنه جمال الأشكال الموزونة الكاملة .
بذل أيمن صادق كل جهده – من هذا المنطلق – لإحكام شكل البيت وحافظ على قواعد الوزن وقوانين القافية وتقسيم المقاطع وذلك لتقديم القصيدة الشعرية شكلا محكما مترابطا , وربما كان الشاعر العظيم عبد المنعم الأنصارى فضل الريادة في تأكيد هذا المفهوم , وأيمن صادق تلميذ مخلص لمدرسة الأنصاري .
فقد نجح الأنصارى في تقديم القصيدة الشعرية شكلا محكما شديد الترابط , سبحت أغانيه في داخله في عالم لا واقعي حطم الأشياء وألغاه , فقدم بهذه الرؤية الشعرية المعاصرة بكل زخمها الثقافي والحضاري وبكل رصيدها الفني داخل إطار الشكل المحكم في تجربة لا أغالي إذا قلت إنها تجربة فريدة فى شعرنا المعاصر ومع إختلاف حجم التجربة الفنية ، يسعي أيمن صادق للحاق بعبقرية الصياغة التي تبثها الأنصاري .
إن غالبية قصائد الديوانين محصورة في إطار من التأليف المحكم المدروس , شديد الحرص علي دقة الشكل والبناء , وتتبع نظاما متحركا تتغير خطوطه من الداخل , بينما تحدده طاقة شكلية ليست مجرد حلية أو تقليد وإنما وسيلة إنقاذ وترقي , فهي إلي جانب وظيفتها في تحقيق الكمال في النظام تصبح الصورة المقابلة للمضمون القلق المتوتر الذي تشحن به القصيدة .
في القصيدة هنا كما كانت عند الأنصاري , بركان متفجر بالعذاب والقلق , ومن هنا كان على الشكل أن يقوم بدور طوق النجاة , وقد رأى أيمن صادق كما رأى الأنصاري من قبل أنه لا سبيل إلى هذا إلا بإحكام الشكل المستقر الهاديء .
ولا أعتقد أننا هنا بحاجة إلى مثال للإستشهاد والتدليل , فقصائد الديوانين كلها تقريبا شواهد مؤكدة .

أنظر مثلا في قصيدة " الملاك الرجيم " من ديوانه سمر .. وحلم النوارس " القصيدة فوضى متداخلة من الحب والحزن والشعور بالوحدة والغربة والموت يبعثرها الشاعر في بني عدوانية مثيرة ,وألوان بشعة من القسوة والسقوط يقف بينها الشاعر إنساناً ممزقاً تتجاذبه هذه العذابات ...( أعري النزيف , أنين يضئ في مقلتيه , مارسيني , فضي بكارة موتي , خبئيني في الموت ... امنحيني .. صليبا أنزف غنائي عليه ... ملاكي الرجيم ) إلى آخر هذه التركيبات العدوانية شديدة القسوة . أما القصيدة , الشكل والبناء فإطار محكم مترابط في نظام دقيق :

اخدعي ليلا كنت أشــكو إليــــــه
وأعري النــزيف بيــن يــديـــــــــــه
وأغني ... فلا يخــــون غنـــائي
وأنيـــني يـــضئ فـــي مقــــلتيـــــــه
مارسيـني .. فضي بكارة موتي
خبئيني في المـوت عن نــــاظريــــه
وامنحينـي عمـرا جديداً ونـايـــاً
وصلــيــبـــــاً أنزفْ غنائي عليــــه

********

نمضي بعد ذلك في تفسير تركيبات التجربة الشعرية علي غرار من يتسلق الجبال , فلكي يتقي السقوط يستمر في اندفاعاته , أما إذا توقف مطولا فإن مصيره هو السقوط في تشبيه جان – بيار – ريشار – أستاذ الأدب المعاصر في جامعة السربون .
ونبدأ فنقرر , أن النص الشعري لا ينشأ عن الموضوعات والبواعث الفنية فحسب بل ربما كان الفضل في خلقه يرجع أساساً إلى إمكانيات الأليف والتركيب بين أنغام اللغة وأصواتها والذبذبات المترابطة المتداعية التي تنبعث من معاني الكلمات . فالكلمات تطلق طاقات وقوي لا منطقية , وهذه الطاقات والقوي هي التي توجه مسار العبارة و وتؤثر بفضل تسلسل أنغامها عند العادية تأثيرا سحريا غير عادي .
الموضوع الذي تتشكل منه التجربة الشعرية عند أيمن صادق هو العشق , والعشق ابتكار للمعاني الجديدة, هكذا تتحرك لغة الشاعر وصوره لصياغة هدف الغربة , فينشئ فيها تلامس حسي تصبح لغة القصيدة لحنا وإيقاعا أشبه بالجرعات السحرية للحب :

وعربد في نهديك ليل وغربة

كنت أرسمني طفلا يخبئ في عينيك فرحته
يــراود المــوت في النهديــن
يسكـــب مــا بيــن العينيــن
فــــلا
*******

وإستطاع أيمن صادق أن يبدع رقصات عقلية معتمداً فيها على ظلال الحروفالصوتية مستغلا الارتباطات القائمة بين الحروف والموسيقى غير النغمية في الشعر التي تعتمد علي تفاوت درجات الشدة والعمق وعلي إختلاف الحركات بين الصعود والهبوط مما وفر لكلماته ديناميات مطلقة وجعل صوره نسيجا مجردا من الخطوط والحركات الخالصة :

عرفتك ضالا .. تجوب الشوارع
عاري السنيـــن بغيـــر إهتـــــداء
يصافح حزنـك مقهــى الـمدينـــة
والعابــرون رصيـــف المســـــاء
وأنت يمارسك الشعـــر نزفـــــاً
ويلعـــق جرحــك حـــرف الهجـــاء
وتنكفئ الأمنيـــــات بقلــبـــــك
يسـتـــافـــك القهـــــر والكبـــريـــاء
تحــاول أن تستعيــد الطريـــق
يعيــــدك قهــــرك خـلــف الـــــوراء
تدوس انكفـاءك سعـيـا إليــــها
وتقــســــم بالقــهـــر والانـــكــفـــــاء
فإمــــا أكــــون
وإمـــا أكــــون
وإمـــــــا يكـــــفــن عمــري العـــفــــاء

( استهلال : سمر ... وحلم النوارس )

**********

وبعد , فهذه محاولة متواضعة للدخول إلي العالم الشعري عند أيمن صادق , حاولت خلالها الاقتراب من الرؤيا الشعرية عنده , وسعيت إلى إيجاد العلاقة الخفية بين موضوع شعره وأدوات بنائه .
أعتقد أن أيمن صادق سوف يكون علامة ملحوظة في خريطة الشعر العربي المعاصر بما لديه من حساسية شعرية , وما يتملكه من صدق فني ومشاعر متوقدة , تؤكد مقولة نوفاليس الشاعر والكاتب الألماني ( ت . 1801 ) في شذراته من أن الشعر " هو مسلك النفس الجميلة الموقعة , صوت مصاحب لذاتنا المكونة , مسيرة في بلد الجمال , أثر ناعم يشهد في كل مكان علي أصابع الإنسانية , قاعدة حرة مستقلة , علو وإرتفاع , بناء للنزعة الإنسانية , تنوير , إيقاع , فن .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أيمن صادق وتجربته الشعرية .............د/السعيد الورقى
المصدر : كتاب موجا يكون الشعر صادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 1997 ص 56

لقاء

لقاء





أجئ إليك

..


يطارد قلبي انصهار المسافة ..


ما بين عبء النهار ..


ودفء المساء


وأغسل- حين تلوح البشارة-وجه اغترابي


وأقطف من مقلتيك النداء


أجئ إليك..


أهندم شوقاً..


يعابث بالشوق مفتاح بابي


فتسقط عني عباءة حزني..


لتشعل فوق لهيب اللقاء


أجئ اليك..


تهلين فرحا


يحلق فوق ارتعاش السحاب


فيخضر قلب..


ويخضر حب..


ويخضر فوق شفاهي الغناء..


أجيء..


تهلين مثل ابتهاج القصيدة..


بين العذاب


يصافح فرحك .. فرحي


وبوحك.. بوحي..


ونحضن في فرحتينا السماء


نخبئ أسرارها في العيون


ونسرق منها..


قميراً ونجمه


ونسرق غيمه


ونهرب خلف حدود الغياب..


وخلف الجنون


لنسكن في حفنه من ضياء


تطهر فينا انتماء التراب


(لكي أحتويك..وكي تحتويني)


كتسبيحة في ابتهال الرجاءأجيئ..


أجيئك


كيف ولم تتركيني؟


!فعشقي صلاة وأنت الدعاء..


تمرغت فوق احتمال الحياة


وفوق السراب


وعشتك أنت بكل يقيني


وكل إنتسابي..


لحــاء..وبـــاء


..


* * *